مفهوم حرية الرأي والاعتقاد: نشاته وتطوره وتطبيقاته حول العالم

 
حدثت في العصر الحديث سلسلة من الأحداث
التي خلقت جدلاً فلسفياً بين حق حرية الرأي
و التعبير وواجب احترام المعتقدات الدينية
وفيما يلي نماذج لبعض الحوادث التي خلقت
مثل هذا النوع من الجدل:
 
·        رواية آخر وسوسة للمسيح The Last Temptation of Christالتي طبعت عام 1960 وكانت للمؤلف اليوناني نيكوس كازانتزاكس(1883 - 1957) وتحولت فيما بعد إلى فيلم سينمائي في عام 1988 وفيه يسرد المؤلف نسخته الشخصية من حياة المسيحوفيه يصور المسيح كنجار يصنع الصليب الذي كان الرومانيون يستعملونه لإنزال العقاب بالمخالفين للقوانين ويصور أيضاً شخصية المسيحكإنسان عادي يملك كل الصفات الإنسانية من شك وضعف وخوف و ارتكاب للذنوب وفي نهاية الرواية يتزوج المسيح من مريم المجدليةبدلاً من صلبه كما هو معهود حسب الكتاب المقدس.
بدأت الاحتجاجات على الفيلم أثناء عملية التصوير حيث قاد الزعماء الدينيون في الكنائس الأمريكية حملة واسعة ضد الفيلم وقامت مجموعة مسيحية متطرفة بإلقاء القنابل الزجاجية الحارقة على صالة عرض للفيلم في باريسفي 22 تشرين الأول/ أكتوبر 1988.
·    فيلم حياة برايان Life of Brianللمجموعة الكوميدية البريطانية MontyPythonفي سنة 1979 وفيه يروي الفيلم وبصورة ساخرة قصة حياة شخص اسمه برايان ولد في اللحظة ذاتها والزقاق ذاته الذي ولد فيه المسيح، ويعتبر الفيلم من الأفلام الكوميدية الكلاسيكية وقد اختير عام 2000 من قبل المجلة الفنية البريطانية Total Filmكأحسن فيلم كوميدي بريطاني في التاريخ والفيلم ينتقد و بصورة ساخرة التطرف الديني. تتكرر في الفيلم سلسلة من المواقف الكوميدية بسبب اشتباه الناس أن برايان هو المسيح بدءاً من زيارة الحكماء الثلاث الذين، وحسب التقليد المسيحي تتبعوا النجوم و استدلوا على مكان ولادة المسيح إلى حادثة الصلب حيث يوضع برايان على الصليب بدلاً من المسيح. امتنعت بعض صالات عرض الأفلام من عرض هذا الفيلم في العديد من المدن البريطانية ومنعت ايرلنداوالنروجوإيطالياوولاية نيو جيرسي في الولايات المتحدةعرض الفيلم لسنوات طويلة.
·    لوحة الفنان الأمريكي اندريس سيررانوAndres Serranoفي عام 1987 والمسمى "البول على المسيح" PissChristواللوحة عبارة عن صورة لصلب المسيحقام الرسام بغمسها في بوله الشخصي و يعتقد البعض أن اللوحة قد غمست في دم الفنان أيضا لكون اللوحة حمراء اللون. أحدثت هذه اللوحة جدلاً كبيراً في مجلس الشيوخ الأمريكي في عام 1987 وكان الجدل بين حرية الفنان في التعبير عن رأيه وعن الإساءة للرموز الدينية. ومن الجدير بالذكر أن أعمالاً أخرى لهذا الفنان الذي هو من أصول كوبية و أفريقية تتضمن غمس اللوحات بعد رسمها في سوائل إنسانية مثل الدموالبولو السائل المنويوكان الهدف من اللوحة المثيرة للجدل حسب رأي الفنان هو "إظهار الطابع الإنساني للمسيح" وترابط المسيحمع الإنسان البسيط "الذي يقوم يومياً بعملية البول" إلا أن المعارضين اعتبروا هذه اللوحة إهانة شخصية للمسيح.
·    رواية آيات شيطانيةللروائي البريطاني سلمان رشدي: الشخصيتان الرئيسيتان في الرواية هما صلاح الدين جمجة الذي هو هندي عاش منذ صغره في المملكة المتحدةوانسجم مع المجتمع الغربي وتنكر لأصوله الهندية و جبرائيل فريشته الذي هو ممثل هندي متخصص بالأفلام الدينية وقد فقد إيمانه بالدين بعد إصابته بمرض خطير حيث لم تنفعه دعواته شيئاً للشفاء حيث يجلس الاثنان على مقعدين متجاورين في الطائرة المسافرة من بومبيإلى لندنولكن الطائرة تتفجر وتسقط نتيجة عمل تخريبي من قبل جماعات متطرفة. وأثناء سقوط هذين الشخصين تحصل تغييرات في هيئتيهما، فيتحول صلاح الدين جمجة إلى مخلوق شبيه بالشيطانوجبرائيل فريشته إلى مخلوق شبيه بالملاك. في احد أحلام جبرائيل فرشته يرجع بنا سلمان رشديإلى فترة صلح الحديبيةويبدأ فصل من الرواية بعنوان ماهوند وهذا الفصل من الرواية جرحت مشاعر المسلمين بصورة عميقة حيث يستند فصل في الرواية على رواية أجمع علماء المسلمين على عدم صحتها وهي الرواية التي وردت في سيرة الرسول حسب ابن إسحاقوفيها يذكر ابن إسحاقأن الرسول وأثناء نزول سورة النجم عليه همس له الشيطان بهذه الكلمات "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى" و الآيات المقصودة هنا هي الآيات 18 و 19 من سورة النجم التي تنص على "أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى" وحسب الرواية فانه هنا همس الشيطان بهذه الكلمات "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى" وهذا يعني انه تم ذكر تلك الأصنام بخير في القرآنوفي هذا إشارة على أن الرسول حاول بطريقة أو بأخرى تقليل معاداة أهل مكةلدعوته وكف الأذى عن أتباعه بذكر آلهة مكةبخير حيث يزعم البعض انه بعد هذه الحادثة ساد الوئام بين الرسول محمدومعارضيه السابقين من أهل مكة حتى بلغ الأمر أن بعض المسلمين الذين كانوا مهاجرين إلى الحبشةهرباً من قمع أهل مكةقد قرروا الرجوع. هذه الرواية يعتبرها المسلمون إحدى الحلقات في سلسلة تاريخ الإساءة إلى شخصية الرسول محمد.
·    فلم الخضوعSubmissionللمخرج الهولندي ثيو فان غوخالذي قتل في 2 نوفمبر 2004 على يد محمد بويري الدانماركي من أصل مغربي لإخراجه هذا الفيلم القصير(10 دقائق) وكان الفيلم عن ما حاول المخرج أن يصوره كسوء معاملة المرأة في الإسلام وربطه بنصوص من القرآن. وكان سيناريو الفيلم مكتوبا من قبل آيان حرصي عليعضوة البرلمان في هولنداوهي من مواليد الصومالالتي حاولت أن تنقل فكرة مفادها أن المرأة في العالم الإسلامي معرضة للجلد إذا أقامت علاقة جنسية خارج إطار الزواج. بينما هي تتعرض  للإغتصاب من قبل أفراد العائلة ولا يجوز مناقشة ذلك بسبب قوامة الرجل على المرأة. و إجبارها على الزواج من الرجال المسلمين الذين تفوح رائحتهم و الذين يقومون بضربهن بناء على تعليمات القرآن. وتم ربط المشاهد بآيات من القرآنويظهر في الفيلم أربعة نساء شبه عاريات وقد كتب على أجسادهن آيات من القرآنبعد عرض الفيلم تلقى ثيو فان غوخالعديد من رسائل التهديد ولكنه رفض أن يأخذها بمحمل الجد ورفض أي نوع من الحماية إلى أن تم أطلاق 8 رصاصات عليه في 2 تشرينالثاني/ نوفمبر 2004 في أمسترداموتم قطع رقبته وطعنه في الصدر من قبل علي محمد بويريالهولنديمن أصل مغربي. وقام بويري بوضع بيان من 5 صفحات على الجثة وفي البيان تهديد للحكومات الغربية واليهودوآيان حرصي عليكاتبة السيناريو وأدت هذه الحادثة إلى ضجة كبيرة ومناقشات حادة حول مصير أكثر من مليون مسلم في هولنداوبدأت بعض المنظمات تحذر مما أسمته "المد الإسلامي" في هولنداوكيف أن نسبة الولادة بين المسلمين هي أعلى من نسب غير المسلمين مما سيؤدي حسب تعبير تلك المنظمات إلى "جعل المواطنين الأصليين أقلية في المستقبل".
·    مسرحية "بيهزتي" Behztiالتي تعني باللغة البنجابية العار وحبكة المسرحية عبارة عن الجنس و القتل في معبد لأتباع الديانة السيخية. والمسرحية من تأليف الكاتب البريطاني من أصول سيخيةكوربريت بهاتي GurpreetKaur Bhattiوأحدثت المسرحية ضجة كبيرة في ليلة الافتتاح في كانون الأول/ ديسمبر2004 نتيجة لاحتجاج أتباع الديانة السيخيةوكان الاحتجاج لمشاهد في المسرحية تصور حادثة اغتصاب وقتل في أحد المعابد السيخية وتم إلغاء العرض إلا أن 700 فنان قاموا بحملة تضامن مع كاتب المسرحية.
·    فيلم دوغما Dogmaمن إنتاج سنة 1999 وهو فيلم كوميدي عن الكنيسة الكاثوليكيةوقد أدى هذا الفيلم إلى العديد من الاحتجاجات المنظمة في العديد من الدول وتهديدات لقتل المخرج كيفن سميث Kevin Smithويتحدث الفيلم عن ملاكين عاقبهما الخالق بالبقاء للأبد في ولاية وسكونسن. الفكرة الرئيسية في الفيلم هو انه يجب التمييز بين الإيمانبدين معين والعقيدةالدينية التي يمكن تعريفها بالاعتقاد بان أي نص ديني مكتوب من قبل ما يعتبره أتباع ديانة معينة خالق الكون يجب أن يطبق بحذافيره. وينتقد الفيلم استعمال الدينلتبرير العنف والعنصرية و معاقبة الأفراد لسبب ميولهم الجنسية والفيلم يحاول أن يقول بان "الفردوس هو للجميع وليس حكراً على دين معين" وإذا كان الشخص "طيباً" فانه سيدخل الفردوس بغض النظر عن دينه و عرقه وميوله الجنسية.
·    الضجة السياسية والاقتصادية والدينية التي أحدثها نشر رسوم كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد في صحيفة يولاندس بوستن الدانماركيةفي 30 ايلول/ سبتمبر2005.
 
بعد هذه الجردة المختصرة، هل يمكن الوثوق بأن القوانين وُضِعَت لخير الإنسان؟ أم إن هذه القوانين شرّعتها الأنظمة لتضمن حُسن انتظام الناس ضمن السكّة التي وضعتهم فيها وبالتالي يتسنّى لها السيطرة على انفعالاتهم وممارسة استبدادها عليهم، إنّما استبداد بأيدي ترتدي قفّازاتٍ حريرية؟
وتماماً كما يتلاعب المعنيون في الدول الغربية في تفسير حرية الرأي والتفكير، تلاعب المتسلّطون على القرار السياسي في أنظمة الحكم الإسلامية منذ عهود الإسلام الأولى، وخصوصاً منذ الانقلاب الأموي على الإسلام، فأقام معاوية بن أبي سفيان "مؤسسة دينية" تبريرية عملت كجهازٍ أساسي من أجهزة إخضاع المجتمع وممارسة الاستبداد من خلال الدور الذي أوكله لها في استنباط الأحكام المعتمدة على أحاديث نبوية موضوعة هدفها تبرير الاستبداد والطغيان، وقد استمر دور هذه المؤسسة التبريرية في تقديم الخدمات لـ"السلطان" عبر الفتاوى والأحكام التي تصدرها وتستنبطها تبعاً لما تقتضيه مصلحة هذا "السلطان".
يمكن اعتبار تأسيس أجهزة "المؤسسة الدينية التبريرية" في الدولة الأموية أوّل فصل للدين عن الدولة، فأصبح الحاكم يحكم بما تمليه عليه مصالحه ومصالح سلطته واستمرارها وليس بما يخدم مصلحة الدين أو الأمة، فتحوّل الدّين إلى أداة لإخضاع المجتمع وتبرير الاستبداد والنهب من خلال خضوع المؤسسة الدينية لمشيئة السلطان، فتحوّل نظام الحكم في الإسلام من نظام يضمن الحريات بما فيها حرية الاعتقاد وحرية الكفر، إلى نظام استبدادي قهري لا يقبل الآخر. وهذا الواقع هو الذي مازال مستمراً في المجتمعات الإسلامية حتى يومنا هذا تحت عناوين "طاعة ولي الأمر"، وتكفير "الخروج على ولي الأمر" واعتبار كل خروج في التفكير عمّا فكّر به ما يطلقون عليه اسم "السّلف الصالح" بأنه بدعة وأن "كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"، وأن أي تفكير مختلف يعني ارتداداً عن الدّين الحنيف يستوجب وضع الحدّ على من يقوم به، ووضع حدّ الارتداد هو "سفك الدم وإباحة المال والعرض".
نجم عن ذلك تعطيل العقل بمنعه عن التفكير، حتى فيما يتعلّق بتفاصيل حياة الناس اليومية ومحاولتها حلّ المعضلات الحديثة التي يواجهها المجتمع، ليحوّل المجتمعات بأسرها إلى حشودِ من الكائنات التي لا حول لها ولا قوّة، فأضحى التخلّف عن الرّكب وعن ممارسة الحقوق الأساسية التي يضمنها النّص الدّيني، بل ويفرضها، حالة متأصّلة تشكّل عقبة كأداء بوجه أي مسعى تسعاه النّخب الثقافية المنفتحة نحو التطوّر والانعتاق من ربقة التخلف والتبعية للعقل الحاكم في السياسة الدولية.
فلا قيمة لأي نصّ مكتوب ما لم يتمّ رذل كل اداة من شأنها دعم الاستبداد، بمختلف انواعه وأشكاله، اكان استبداداً عسكرياً او مالياً أو دينياً، فكل هذه الاستبدادات تعبّر عن الشرّ نفسه، وما الإختلاف سوى في أدوات ممارسة هذا الاستبداد الذي هو بأصله منافٍ للفطرة الإنسانية التي تقول كل الرسالات السماوية بأن الإنسان فُطِرَ على الخير.
 

معلومات إضافية