مفهوم حرية الرأي والاعتقاد: نشاته وتطوره وتطبيقاته حول العالم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ(4)  وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
صدق الله العظيم.
 وفي آيات هذه السورة ما يشير من خلال صياغتها التي تتضمّن الحاضر، أي وقت نزولها ومخاطبة الرسول للكافرين بها، وهي بصيغة "لا أعبد ما تعبدون"، والمستقبلحيث الصيغة "ولا أنا عابد"، أي أن هذا الاختلاف القائم فيما بين ما يعبده الرسول وما يعبده الكافرون، والمستمرّ في المستقبل تبعاً لصيغة نص الآية المباركة، يعطي حق الكفر لمن شاء الكفر، وأن هذا الحق مستمرٌّ في المستقبل ويُعمل به على مدى التاريخ شأنه شأن الفرائض والحقوق الأخرى التي يدعو لها النّص الدّيني الإسلامي وليس أمراً ظرفياً سقط مع سقوط مبرراته. وهذا ما يتأكّد أيضاً مع الآية الأخيرة من هذه السورة والقائلة: "لكم دينكم ولي دين".
ولا يمكن الاعتماد على ما عُرف باسم "حروب الرّدّة" والحروب التي نشأت فيما بين المسلمين واليهود في يثرب وخيبر على أنّها حروب لفرض الدّين الاسلامي بالقوّة وبأنّها التعبير عن رفض التعددية الدّينية في الاسلام. فتلك الحروب نشأت على قاعدة نقض العهود والمواثيق القائمة فيما بين الدولة الاسلامية الفتيّة وتلك الجماعات، التي ألغت الاتفاقيات والعقود المبرمة مع المسلمين من طرف واحد وراحت تتآمر على الدولة الإسلامية مع أعدائها، مما استوجب إعلان الحرب عليها، أي على تلك الجماعات، وليس على ما تمثّله من أديان تعتنقها.
غير أن هذا الوضع أخذ بالتغيّر في الدولة الإسلامية منذ "الانقلاب الأموي" الذي حوّل الدّين إلى أداة بيد الحاكم وأوكل إلى "مؤسسة دينية" متخصصة بتطويع النصوص بما يتلاءم مع مصلحة السلطة التي سلكت مسالك الاستبداد ووضعت مصلحة الحاكم فوق كل اعتبار وصولاً إلى حالة الاستبداد المطلق الذي عرفته المجتمعات الاسلامية في العهود السلطانية التي بدأت مع البويهيين والسلاجقة والإخشيديين والأيوبيين وسلاطين المماليك والمغول والتي يبدو أنها لم تنتهِ مع السلاطين العثمانيين، إنّما استمرت مفاعيلها قائمة في مجتمعاتنا حتى يومنا هذا.
البدايات الأوروبية الخجولة لحرية الرأي والتعبير:
أمّا الدعوات الحديثة لحرية الرأي والتعبير، فهي ترجع إلى بدايات التاريخ الحديث في بريطانيا،وتحديداً بعد  الثورة التي أطاحت بالملك جيمس الثاني عام 1688 ونصبت الملك وليام الثالث والملكة ماري الثانية على العرش، حيث بدأ هذا المفهوم يجد طريقه إلى التطبيق على نطاق ضيّق جداً حيث أصدر البرلمان البريطاني بعد سنة من ذلك قانون "حرية الكلام في البرلمان" حيث منح هذا القانون أعضاء مجلس النوّاب الحق بالكلام بحرية في مختلف الأمور دون أن يطاله أي عقاب، شرط أن لا ينال كلامه من "الذات الملكية".
أمّا في فرنسا، فقد استدعى الأمر عقود من الصراع والثورات المتتالية،ومرور قرن كامل على صدور قانون حرية الكلام في البرلمان البريطاني،حتى يتم إعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا عام 1789 عقب الثورة الفرنسيةالذي نص على أن حرية الرأي والتعبير جزء أساسي من حقوق المواطن. إلاّ أنّ مفاعيل هذا الإعلان لم ترّ نور التطبيق بل بقيت حبراً على ورق حيث أن المقصلة كانت جاهزة دائماً لمعاقبة "أعداء الثورة" ولتشهد فرنسا فيما بعد أبشع أنواع الحكم الاستبدادي مع روبسبير ومحاكم التفتيش.
وكانت هناك محاولات في الولايات المتحدةفي الفترة الزمنية نفسها لجعل حرية الرأي والتعبير حقا أساسياً، لكن الولايات المتحدةلم تفلح في تطبيق ما جاء في دستورها لعامي 1776 و 1778 من حق حرية الرأي والتعبير وبقي هذا البند غير قابل للتطبيق العملي حتى تمّ حذفه من الدستور في عام 1798، واعتبرت معارضة الحكومة الفدرالية جريمة يعاقب عليها القانون ولم تكن هناك مساواة في حقوق حرية التعبير بين السود و البيض.
ستبقى حرية التعبير عن الرأي وحرية الاعتقاد حتى منتصف القرن التاسع عشر حتى تتحوّل إلى حاجة ملحّة امام التطوّر الرأسمالي في أوروبا، خاصة بعد أن دخل الرأسماليون اليهود في صلب العلاقات الاقتصادية والمالية للاقتصادات الأوروبية. ويعتبر الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميلJohn Stuart Mill(1806- 1873)من أوائل الذين نادوا بحرية التعبير عن أي رأي مهما كان هذا الرأي غير أخلاقي في نظر البعض، حيث قال: "إذا كان كل البشر يمتلكون رأيا واحداً وكان هناك شخص واحد فقط يملك رأياً مخالفاً، فإن إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل بني البشر إذا توفرت له القوة" وكان الحد الوحيد الذي وضعه ميل لحدود حريةالتعبير عبارة عمّا أطلق عليه "إلحاق الضرر" بشخص آخر.
ولا يزال حتى يومنا هذا اليوم الجدل قائماً عن ماهية "الضرر". فقد يختلف ما يعتبره الإنسان ضرراً ألحق به من مجتمع إلى آخر. وكان جون ستيوارت ميل من الداعين للنظرية الفلسفية التي تنص على أن العواقب الجيدة لأكبر عدد من الناس هي الفيصل في تحديد اعتبار عمل أو فكرة معينة أخلاقياً أم لا وكانت هذه الأفكار مناقضة للمدرسة الفلسفية التي تعتبر العمل اللاأخلاقي سيئاً حتى ولو نجمت فائدة عامة عن القيام به. واستندت هذه المدرسة على الدينلتصنيف الأعمال إلى مقبولة أو مسيئة. ولتوضيح هذا الاختلاف فان جون ستيوارت ميل يعتبر الكذب على سبيل المثال مقبولاً إذا كان فيه فائدة لأكبر عدد من الأشخاص في مجموعة معينة على عكس المدرسة المعاكسة التي تعتبر الكذب تصرفاً سيئاً حتى و لو كانت عواقبه جيدة.
وبسبب الهجرة من الشرقإلى الدول الغربية واختلاط الثقافات والأديان ووسائل الاتصال الحديثة مثل الإنترنتشهد العالم موجة جديدة من الجدل حول تعريف الإساءة أو الضرر وخاصة على الرموز الدينية حيث شهد العالم في أواخر 2005 وبدايات عام 2006 ضجة سياسية وإعلامية ودينية واقتصادية حول ما اعتبره المسلمون الإساءة للنبي محمدواعتبره العالم الغربي وسيلة في حرية الرأي والتعبير.
بدأت مؤخرا حركات في أوروباتطالب بتعديلات في القوانين القديمة المتعلقة بالإساءة إلى الرموز الدينية التي وإن وجدت في القوانين الأوروبية ولكنها نادراً ما تطبق في الوقت الحالي ولكن مع انتشار الهجرةإلى أوروبامن دول غير أوروبية وجدت الكثير من الدول في أوروبانفسها في مواقف قانونية حرجة لوجود بنود في قوانينها الجنائية تجرم المسيئين إلى الرموز الدينية ووجود بنود أخرى تسمح بحرية الرأي و التعبير وهذه القوانين التي تعتبر الإساءة للدين عملاً مخالفا للقوانين لا تزال موجودة على سبيل المثال في البندين 188 و189 من القانون الجنائي في النمساوالبند 10 من القانون الجنائي في فنلنداو البند 166 من القانون الجنائي في ألمانياو البند 147 في القانون الجنائي في هولنداو البند 525 في القانون الجنائي في اسبانياوبنود مشابهة في قوانين إيطالياو المملكة المتحدةو الولايات المتحدة.
 
نماذج من حدود حرية الرأي و التعبير في العالم:
·    فرنسا:يمنع القانون الفرنسي أي كتابة أو حديث علني من شانه أن يؤدي إلى حقد أو كراهية لأسباب عرقية أو دينية ويمنع أيضا تكذيب "حقيقة" جرائم الإبادة الجماعية ضد اليهودمن قبل النازيين ويمنع أيضاً نشر أفكار الكراهية بسبب الميول الجنسية للفرد. وقد أتهم القضاء الفرنسي المفكر الفرنسي روجيه جاروديوكذلك الكاتب الصحفي ابراهيم نافعبتهمة معاداة السامية حسب قانون جيسو.
في 10 آذار/ مارس2005منع قاضي فرنسي لوحة دعائية مأخوذة من فكرة لوحة العشاء الأخير لليونارد دافنتشي. حيث تم تصميم اللوحات الدعائية لبيت قيغباود لتصميم الملابس وأمر بإزالة جميع اللوحات الإعلانية خلال 3 أيام. حيث أعلن القاضي بأن اللوحات الدعائية مسيئة للروم الكاثوليك. وعلى الرغم من تمسك محامي قيغبادو بأن منع الإعلانات هو نوع من الرقابة وقمع لحرية التعبير، إلا أن القاضي اقر بأن الإعلان كان تدخلاً مشيناً وعدوانياً بمعتقدات الناس الخاصة. وحكم بأن محتوى الإساءة إلى الكاثوليك أكثر من الهدف التجاريِ المقدم.
 
·    ألمانيا :في القانون الأساسي الألماني والذي يسمى Grundgesetzينص البند الخامس على حق حرية الرأي والتعبير ولكنها رسمت حدود مماثلة للقانون الفرنسي بمنع خطابات الكراهية ضد العرق والدين والميول الجنسية إضافة إلى منع استعمال الرموز النازيةمثل الصليب المعقوف.
·    بولندا :تعتبر الإساءة إلى الكنيسة الكاثوليكيةورئيس الدولة حتى هذه الأيام جريمة يعاقب عليها القانون حيث تم الحكم بالسجن لمدة 6 اشهر على الفنان البولندي دوروتا نيزنالسكا Dorota Nieznalskaفي 18 تموز/ يوليو2003 لرسمه صورة العضو الذكري على الصليب وحكمت بدفع غرامة على الصحفي جيرزي أوروبان بمبلغ 5000 يورو في 5 كانون الثاني/ يناير2005 لإساءته لشخص البابا يوحنا بولس الثاني.
·    كندا :يمنع القانون الكندي خطابات وأفكار الكراهية ضد أي مجموعة دينية أو عرقية وتمنع الأفكار أو الكلام أو الصور التي تعتبر مسيئة أخلاقياً من الناحية الجنسية حسب القوانين الكندية وفي 29 نيسان/ ابريل2004 وافق البرلمان على قانون يمنع الإساءة لشخص بسبب ميوله الجنسية.
·    الولايات المتحدة :في الولايات المتحدة وضعت المحكمة العليا مقياساً لما يكن اعتباره إساءة أو خرق لحدود حرية التعبير ويسمى باختبار ميلرMiller test وبدأ العمل به في عام 1973 ويعتمد المقياس على 3 مبادئ رئيسية وهي : عمّا إذا كان غالبية الأشخاص في المجتمع يرون طريقة التعبير مقبولة وعما إذا كان طريقة إبداء الرأي يعارض القوانين الجنائية للولاية وعما إذا كانت طريقة عرض الرأي يتحلى بصفات فنية أو أدبية جادة. ومن الجدير بالذكر أن إنكار حدوث إبادة جماعية لليهود لا يعتبر عملاً جنائياً في الولايات المتحدة ولهذا تتخذ معظم مجموعات النازيين الجددمن الولايات المتحدة مركزاً إعلامياً لها.
ولكن حين ستشعر السلطات الفيدرالية الاميركية بأن الحريات الشخصية التي يمنحها القانون للأفراد بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، جنحت تلك السلطات إلى سنّ مجموعة من القرارات والإجراءات الاستثنائية التي تخوّل الأجهزة الأمنية الحق في التدخل بأدق تفاصيل الحياة الشخصية للأفراد بشكل استنسابي ومن دون أن تقدّم تلك الأجهزة أي اثباتات أو قرائن إدانة للذين تتدخل بامورهم الشخصية أو تعتقلهم للتحقيق معهم مهما طالت فترة الاعتقال. وقد جاءت تلك القوانين تحت مظلة القانون الذي يُعرف بـ PATRIOT Actالذي منح الأجهزة الأمنية صلاحيات واسعة تمكنها من القيام بأعمال تنصت و مراقبة و تفتيش دون اللجوء إلى التسلسل القضائي الذي كان متبعاً قبل 11 ايلول/ سبتمبر 2001. و مع بدء الولايات المتحدة حملاتها العسكرية على كل من أفغانستانو العراقفيما يعرف بالحرب على الإرهابو تعرض مقرات بعض القنوات الإخبارية والصحافيين العاملين بها لاعتداءات متكررة من قبل القوات الأمريكية، بدأت تظهر مزاعم حول تعمّد ذلك و خاصة بعد استهداف مقر قناة الجزيرةالإخبارية في أفغانستان عام 2002وفي بغداداثناء عملية غزو العراق 2003والتي أدت إلى مقتل مراسل الجزيرة في بغداد طارق أيوبو ساعد في تأكيد ذلك نشر صحيفة الديلي ميرور البريطانيةفي تشرين الثاني/ نوفمبر2005وثائق سرية اشتهرت بأسم وثيقة قصف الجزيرةمفادها أن الرئيس الأمريكي جورج بوشكان يرغب بقصف المركز الرئيسي لقناة الجزيرة في قطروقد نفى متحدث باسم البيت الأبيضهذه الإتهامات.
·    أستراليا :في شباط/ فبراير1996 تم الحكم على السياسي الماركسي ألبرت لانغر Albert Langerبالسجن لمدة 10 أسابيع لتحريضه الناخبين لكتابة أرقام أخرى لم تكن موجودة ضمن الخيارات في ورقة الاقتراع لإظهار الاحتجاج على الحزبين الرئيسين المتنافسين واعتبر هذا مخالفاً لقوانين الانتخابات في أستراليا.
·   بلجيكا: منعت السلطات المحلية لمدينة Middelkerkeفي 6 شباط/ فبراير2006 الفنان ديفد سيرني David Cernyمن عرض تمثال للرئيس العراقي السابق صدام حسينفي احد المعارض الفنية يظهر التمثال صدام حسينعلى هيئة سمكة قرش ويده مكبل بالأغلال من الخلف في حوض من الفورمالين واعتبرت السلطات هذا العمل الفني مثيراً للجدل و قد يسبب احتجاجات من الأطراف المؤيدة للرئيس العراقي السابق.
·    الدول الأفريقية: هناك العديد من الدول الأفريقية التي تنص دساتيرها على حق حرية التعبير ولكنها لا تطبق على ارض الواقع بنظر المراقبين الدوليين لحقوق الإنسان التي أشارت إلى خروق واضحة لحق المواطن في التعبير عن رأيه بحرية في كينياو غاناو يعتبر البعض إريتريافي مقدمة الدول في اعتقالها للصحفيين وهناك رقابة حكومية على وسائل الأعلام في السودانوليبياوغينيا الاستوائيةوهناك بوادر في تحسن حقوق الحرية في الرأي في تشادوالكاميرونوالغابون.
·    الدول الآسيوية: هناك العديد من الدول الآسيوية التي تنص دساتيرها على حق حرية التعبير ولكنها لا تطبق على ارض الواقع بنظر المراقبين الدوليين لحقوق الإنسان التي أشارت إلى خروق واضحة لحق المواطن في التعبير عن رأيه بحرية في فيتنامو ميانمارو كوريا الشماليةوأشارت تقارير المراقبين أن هناك تحسناً في مجال حرية التعبير في الصينمقارنة بالسابق إلا أن الحكومة في الصينلا تزال تراقب وسائل الأعلام وتمنع مواطنيها من الدخول إلى العديد من مواقع الإنترنت بما فيها موسوعة ويكيبيديا.
·    الهند : في 26 أيلول/ سبتمبر1988 أصدرت السلطات القضائية الهندية قراراً بمنع سلمان رشديمن دخول الهندعقب نشره لروايته المثيرة للجدل "آيات شيطانية" التي اعتبرها المسلمون إهانة للدين الإسلامي حيث احتوت احد فصول الرواية على شخصية كانت اسمها ماهوند واعتبرها المسلمون محاولة من سلمان رشدي للإساءة إلى شخص رسول الإسلام و زوجاته حيث ورد ذكر دار للدعارة في مدينة الجاهلية والتي يقصد سلمان رشديبها مدينة مكةوكان في دار الدعارة هذه 12 امرأة وكانت أسماءهن مطابقة لأسماء زوجات الرسول محمد وفيه أيضاً وصف تفصيلي للعمليات الجنسية التي قام بها ماهوند.
·    الدول العربية: على الرغم من وجود بنود في دساتيربعض الدول العربية تضمن حرية الرأي و التعبير إلا أنها لم تخرج عن إطارها الشكلي إلى حيز التطبيق حيث الانتهاكات كثيرة لحرية التعبير في كثير من الدول العربية التي يمنع في معظمها إن لم يكن في جميعها انتقاد الحاكم أو السلطة الحاكمة أو الدين، و قد يتعرض الكاتب أو الصحفي للسجنو التعذيب.

معلومات إضافية