جزء من محاضرات هيغل حول فلسفة التاريخ
حين قرّرت مكتبة الفقيه – بيروت الاكتفاء بنشر هذا الجزء من التراث الفلسفي الضخم لمؤسّس الديالكتيك والفلسفة المثالية الغربية في القرن التاسع عشر، كانت تعي بشكل واضح ما تريد، خاصة وأنها ليست أوّل من خاض في مجال ترجمة التراث الهيغلي إلى اللغة العربية. ففي هذا الجزء من محاضرات هيغل حول فلسفة التاريخ، ينجلي واضحاً، وبما لا يحمل الشك، جوهر نظرة "الأنا" الغربية في عنجهيتها وغرورها للشرق، وهي النظرة التي برّرت حركة الاستعمار والنّهب والاستبداد التي مارسها الغرب تجاه الدول والمجتمعات الشرقية تحت شعارات التمدين والتطوير.
فمنذ أواخر القرن الثامن عشر، كانت اوروبا الاستعمارية قد حسمت أمر سيطرتها على العالم، وبات لزاماً عليها فهم أواليات اشتغال المجتمعات التي استتبعتها وأخضعتها بالقوة العسكرية ليتسنّى لها عضونتها في أوالياتها الخاصة وتأبيد عملية الاستتباع والسيطرة التي ستغدو في القرن التاسع عشر ذاتية التموين، أي أن التبعية نفسها تعيد إنتاج عناصر استمرارها وتعميقها.
في هذا الخضم، شاعت الدراسات الاستشراقيةعلى مختلف المستويات الفلسفية والأدبية والتاريخية والاجتماعية، حتى طالت كافة النواحي الحضارية للمجتمعات الشرقية. وكان رائدالفكر الفلسفي الألماني اوائل القرن التاسع عشر، ج.ف.ف. هيغل، أبرز من تصدّى لتحليل وتشريح بنية الحضارات الشرقية وطباع الشرقيين والعناصر المكوّنة لشخصيتهم ولنمط اجتماعهم، وعمل على إبراز سمات هذه الشخصية، بالكيفيّة التي تتلاءم مع أنويته الغربية الاستعلائية، مركّزاً على ما اعتبره المحطّات الرئيسية في السلكة التي سلكتها المجتمعات الشرقية في تطوّرها التاريخي من الصين الى مصر مروراً بالهند وبلاد فارس والحضارات الفينيقية والآشورية والبابلية، ملقياً الضوء على ما يخدم فرضياته المسبقة واستنتاجاته وبنيته الفكرية والنظرية وغاياته من مجمل أبحاثه هذه.
لا يغيب عن بال أي من الدارسين للنتاجات الفكرية الأوروبية في القرن التاسع عشر تمحورها حول اعتبار الحضارة الأوروبية بأنها هي غاية الكمال الانساني، وبأن الأوروبي هو الأكمل و الأقوى والأذكى والأفضل، وأن على باقي أجناس البشر الخضوع أمام عظمة أوروبا حتى يتمكنوا، ليس من اللّحاق بها، بل من تلمّس عتبات التقدّم والمدنية!
أسّس تمركز الفكر الغربي حول "الأنا" الأوروبية للفكر العنصري الأوروبي وامتداداته في العالم، وبالإمكان تقديم الفكر الهيغلي الذي يتبلور واضحاً في هذا الكتاب، "العالم الشرقي"، كنموذج لهذا الانزلاق.
بيد أن الضرورة العلمية تقضي بدراسة هذه النتاجات بعمق وبجدّية. وقد أفلح مرجم هذا النص الأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح إمام بتوضيح أفكار هيغل وخلفياتها العنصرية بشكل رائع من خلال تقديمه للكتاب ومن خلال التعليقات التي أوردها في الحواشي حتى بات كتاباً مرجعياً يوفّر على قارئه الكثير من العناء، مما جعله بمتناول القارئ المهتم، أكان متخصصاً أو غير متخصّص.
نأمل أن نكون في نشر هذا الكتاب بمقدمته وتعليقاته الجوهرية، قد قدّمنا خدمة للثقافة العربية وللقارئ العربي، ولعملية تطوّر وتطوير النتاج الفكري العربي.